بعد رواية "البومة العمياء" لصادق هدايت التي شكّلت نقطة تحول بارزة في مسار الأدب القصصي الإيراني، يمكن اعتبار رواية "ملكوت" لبهرام صادقي الخطوة الثانية على سلم القصة الحديثة في إيران. الرواية تدور في فضاء سريالي بالكامل وموهم، وشخصياتها قبل أن تكون حقيقية فهي رموز وإشارات. تحاشى بهرام صادقي في هذا العمل كثرة الحشو وإطالة الكلام والتوضيحات البصرية، وعرّف الشخصيات من خلال الحوار الذي أدراه بين "السكرتير الشاب" و"الدكتور حاتم".
خلاصة الرواية :
يواجه أربعة أصدقاء كانوا يتسامرون معاً في بستان أحدهم، حادثة حلول الجن بصديقهم "السيد مودت"، صاحب البستان فيهرع به الثلاثة ليوصلونه إلى الطبيب الوحيد في المدينة "الدكتور حاتم"، الطبيب الذي لا يعرفه أحد من الأصدقاء الأربعة غير "الشخص المجهول". وأثناء العلاج يتبادل الطبيب الحديث مع واحد من الأصدقاء، وهو "السكرتير الشاب"، فيحدثه الدكتور حاتم عن حياته المريرة وعن مريض له يدعى "م.ل" قَصَد عيادته مع خادمه "شكو" من أجل أن يقطع آخر عضو تبقّى له في جسمه، لأن الرجل كان قد بتر في السابق كل أعضاء جسده. أثناء إقامته ببيت الدكتور حاتم لثلاثة عشر يوماً، يدوّن "م.ل" ذكرياته الماضية وأفكاره وإحساساته الحالية، وطيلة هذه المدة يقوم على خدمته والعناية به "شكو" والممرضة "ساقي" . "ساقي" زوجة الدكتور حاتم التواقة للحياة، يبدو أنها ستكون على علاقة بـ"شكو" وسوف تقتل على يد الدكتور حاتم.
لن تكون "ساقي" الضحية الوحيدة للدكتور حاتم، لأنه كان قد حقن جميع ساكنة المدينة والمدن المجاورة التي عاش فيها بحقنة الموت. لن يقتل الآخرين فقط بل سيقتل نفسه أيضاً، وكأن وجوده يكتسي معناه في الموت فقط، الموت الذي لا يريده ويحاربه، لكنه يقضي على نفسه من الباطن.
يدور موضوع ملكوت حول المصير المحتوم للإنسان وهو تقبّل الحياة الجبرية والموت. يبدو من النظرة الأولى أن صادقي يعتقد أن كل إنسان يبدأ في الموت مع ولادته، والقوى الغيبية ترسم له قدره الذي لا يملك تغييره. سواء قبلت الموت أم لم تقبل، خفت أم لم تخف، لابد أن تخضع له في نهاية الأمر. وفي هذا الخضم من يكون غارقاً في ملذات الحياة يكون الأكثر خوفاً من الموت. لكن ليس هذا التحليل سوى الغطاء الظاهر للقصة لأنها قصة رمزية وسريالية.
ملكوت كناية عن العالم الفاني والزائل. وكل من يتعلّق بهذا العالم ويريد الخلود فيه يجد نفسه، في لحظة مفاجئة، يتذوق طعم الموت عبر حقنة أعدها الدكتور حاتم خصيصاً لهذا الغرض.
الزمن الخارجي الذي تدور فيه أحداث الرواية هي ليلة تمتد إلى أولى بشائر الصبح. وفي هذا الزمن القصير تلج تراجيديا الموت في الجسد المادي للغافلين وتؤثر في غضون سبعة أيام، ويبدو أنها إشارة إلى "رؤيا الأصوار السبعة" التي وردت في مكاشفات يوحنا : "عش هذا الأسبوع المتبقي وكأنه مائة سنة... وحتى لحظة الموت لا تحس بأي حسرة أو غم".
تحضر ملكوت في ثلاثة مواقع؛ تظهر مرة بصفة زوجة السكرتير الشاب الموظف البسيط والمكافح، وهي تقدّر وتحب البساطة وتظل دائماً بانتظار زوجها حتى وقت السحر، والرجل الشاب يعيش إلى جانبها حياة بسيطة وحميمة. وفي موضع آخر تكون ملكوت واحدة من النسوة الكثيرات اللواتي قتلهن الدكتور حاتم لأنه لم "ير خيراً من الحب والمرأة" رغم أن آخر واحدة منهن وهي ساقي ما تزال تعيش معه. وبحسب تعبير ميلان كوندرا : "الأسماء الأولى من دون ألقاب، والألقاب من دون الأسماء الأولى، ليست سوى علامات" يمكن إذن اعتبار شخصيات رواية ملكوت كلها رموز. وإذا قبلنا بأن اسم "م.ل" يتكون من الحرفين الأولين في "ملكوت"- كما ذهب إلى ذلك بعض النقّاد- فلم يبق منه الآن سوى يدٌ واحدة وجسده المعطوب، وعليه فـ"م" و"ل" يكفيان لتسميته.
والموضع الثالث يمثل الملكوت ذاك العالم الذي يريد م.ل. العودة إليه بعد أن استيقظ في نفسه الوازع الذي أثار قيامة بداخله فقرر العودة إلى الحياة من جديد، لكنه لن يصل إلى ملكوته نظراً لأن الدكتور حاتم سيعرف أن م.ل. صار مثل الآخرين يتوق إلى طول العمر والحياة المديدة، فيحقنه بحقنة الموت ويصبح مصيره مثل البقية.
ملكوت بالنسبة للشاب السكرتير ما تزال حية، وهي بالنسبة للدكتور حاتم في عداد الموتى، ولـ م.ل. هي بشرى المستقبل ورؤياه الجديدة. ومن هنا ندرك مدى تفاوت وجود ملكوت من عدمه بالنسبة للثلاثة. فـ ملكوت يجعل من أحدهم شيطاناً ومن الآخر عاشقاً للمصير، ومن الثالث حالماً بالعودة الخالدة.