في هذه المشاهد الأولى يمد إبراهيم أصلان يده ليوارب الأبواب، ويمضي بنا إلى تلك الحنايا المأهولة بنفر من أهل الليل، الحنايا العامرة بدفء القلوب عندما تتجاور، يلملم الأشجار والأحزان ونجوم الليالي، ويجمع ابتسامات الرجال وآمالهم، ويلامس جراح الروح بأطراف الأاصابع برفق، ولكن دون وجل لينتهي بنا، بقدرة الفنان ومهارة المبدع، إلى عالم غير مسبوق، يغنينا، ويملأ نفوسنا بفيض من الأسى والبهجة والتراحم.
يقدم الكاتب في هذا الكتاب مساحات من السرد، ومساحات من الزمن ليتوقف عند أطوار مختلفة ومتباعدة من حياة هذا النفر القليل من الناس، وحياة الوطن الذي يعيشونه، ويجسدها في مشاهد يكتمل كل منها على حدة لتمنحنا عقداً واحداً موصولاً، له حبات من النور، ترتجف، لتهدينا في قلب العتمة.
من الكاتب صاحب روايات "بحيرة المساء" و"عصافير النيل" و"مالك الحزين" يأتي هذا الكتاب ليضيف إلى عالم إبراهيم أصلان السردي المميز، الغارق في الواقعية والحوارات العامية والشخصيات الحية التي يكاد المرء يلمسها بيده ويراها أمامه، لتتجسد واضحة وحقيقية فتروي حكاياتها وتفاصيلها وأحدث حياتها.
سردية إبراهيم أصلان هي سردية رقيقة وحنونة، سلسة بطريقة مرضية تتركنا في استرخاء لذيذ لتلك الكلمات المنسابة من قلمه مثل ماء نبع صغير، بقصص مستوحاة من عمله الطويل في مصلحة البريد
كتب هذه الحكاية عن موظف البريد سليمان الذي يعمل بوردية الليل كعامل للتلغراف وما يواجهه من تفاصيل صغيرة وأحداث عادية لكنها تخرج من طور كونها عادية لأننا نقرأها بتلك السردية المذهلة، التي تتركنا في حضرة كاتب يحترف فن الحكاية ويخيط تفاصيلها بكل احتراف وجمال.