الآنَ أصبحَ الطفلُ واحدًا من أبناءِ ذئابِ الجبلِ، ولم تكنْ الرحلةُ بالهينةِ، فقدْ أضحَى الصغيرُ بعيدًا عنْ قَريتِهِ مسافةَ أربعِ ساعاتٍ ونصفَ ساعةٍ، يَقطَعُهَا خمسةَ أيامٍ كُلَّ أسبوعٍ، يخرجُ في التاسعةِ صباحًا ليصلَ إلى النادي الثانيةَ ظهرًا، لخوضِ التدريبِ في تمامِ الثالثةِ والنصفِ أو الرابعةِ، يستَمِرُ الصغيرُ في مِرَانِهِ لمُدَةِ ساعتين أو ساعتينِ ونصفٍ يُداعِبُ فيهَأ حُلُمَهُ، يَربِتُ على محبوبَتِهِ، يُقبِلُهَا بِقدَمِهِ قبلَ أنْ يُرسِلَهَا إلى الشباكِ، ليَشهَدَ الجَميعُ على مَوهبةِ هذا الطفلِ المُتفرِدِ، ينتهِي مِرانُهُ في السادسةِ مساءً ليَعودَ مرةً أخرى إلى طريقِ "بسيون"، بينَمَا يَقبعُ وَالدَيهِ في انتظارِ ابنِهِم العائدِ من سَفرِهِ، ليصلَ إلى منزلِهِ في العاشرةِ، يَتنَاولُ طَعامَهُ ويَنامُ، استعدادًا لرحلةِ الغدِ.
لم تَكنْ هناكَ وَسيلةُ مُواصلاتٍ مُباشرةٌ من بسيون للقاهرةِ، لذلِكَ كانَ على "صلاح" ركوبَ ثلاثِ حافلاتٍ أو أربعَ وأحيانًا خَمسَ؛ منْ أجلِ الوصولِ للتدريبِ والعودةِ للمنزلِ، كانَتْ فترةً صعبةً، فما زالَ الصبيُّ غضًا، لكنْ عُيونَهُ الحَالِمَةَ وقلبَهُ المعلقَ بكرةِ القدمِ جَعَلاه يَصبِرُ، ويَحتمِلُ، بل رُبمَا لو اشتَدَّ الأمرُ عليهِ أكثرَ مِنْ ذَلكَ لاحتملَ أيضًا، فكلُّ ما يُريدُهُ هوَ أنْ يُصبحَ لاعبَ كُرةِ قَدمٍ، وماذا يَفعَلُ سِوَاهَا، فقدْ قدمَ لهَا كُلَّ شَيءٍ، أعطَاهَا كلَّ شيءٍ؛ حتى أصبحَ لا يَمتَلِكُ غيرَها.
من سلسلة "ألف سيرة وسيرة" - إنتاج أصلي من كتاب صوتي