تأمّلت أمواج الدُخان الصّاعدة تتأرجح نحو قلب السّماء، استوقفت أحدهم، سألته:
- ما الذي حدث في هذه الناحية؟
نظر لي يستعجب تساؤلي، ولاحظ أنّ علامات الخبل بادية على وجهي، لكنّه صاح بوجهي:
- هل كنت في قمقم؟ لا أحد هنا، أحرقوا الجثث.
ومضى عنّي مذعورًا وصوته يبحّ كأنّما يبكي، وراح يبرطم كأنّه يهذي، مات الجميع إذًا؟! لم يقل شيئًا آخر، فتقدّمت نحو البيت، وصعدت مع دوائر الدُخان المتّصلة، وسمعت صوت لهاث، ساورتني الظنون، فمضيت أبحث عن الصّوت، قلّبت الحجارة بيديّ، واللهاث يقترب، تعثّرت في أكوام الحجارة الملقاة، ولهثت بدوري، وأخذ صدري يعلو وينخفض، في سرعة، ثم وقعت عيناي عليها، كانت طفلة صغيرة اسودّ وجهها رمادًا، وكانت مقرفصة خائفة ترتعد، خلف أحد الجدران الذي لم يزل قائمًا، دنوت منها وبيديّ لوّحت لها ألاّ تخشاني، إنّما سرعان ما تجهّمت، وخدشت بأناملها ساعدي خوفًا، وفرّت راكضة تختبئ في جهة أخرى، أدركت أنّ الجنون أطاح بالمدينة، انحدرت إلى الشّارع ثانية، ومن بعيد يفتّش العساكر القادمين، عرجت نحو درب مظلم، واستطاعت أنفي أن ترصد رائحة نافذة، وحاولت جاهدًا أن أسلك طريقًا تُبعدني عن الرائحة، لكن الرائحة كانت تقترب أكثر، وعلى مرمى بصري كانت الجثث المحترقة لم تزل دافئة، طريّة، أشحت بعينيّ، أيقنت أنّ ملامحها احترقت، وليس لي سبيل في تحديد هويّة أهلي وسط هذه الجثث، غصّ حلقي، وحثثت قدميّ نحو جدار، جررتهما، وأفرغت جوفي وقعدت أنتحب، لم يكن لمدينتي أن تحترق مثل هذا الاحتراق!
وكالشريد، أخذت أقطع الدروب والشوارع، مثل تائه يبحث عن مأوى، حلّقت المدينة الضائعة نحو بطن السّماء، وعلقت فيها، بدخانها وأطلالها، وكان يتقاطر منها دموع، كزيت حارق يكوي قلب التّاريخ.